كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
لَا تَنْسَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي دَعْوَةِ مُشْرِكِي مَكَّةَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأَنَّهَا تَكْثُرُ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِلَفْظِ (وَقَالُوا. وَقَالُوا) وَتَلْقِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الْحُجَجَ بِلَفْظِ (قُلْ... قُلْ...) حَتَّى إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ تَكَرَّرَ فِيهَا عَشَرَاتٍ مِنَ الْمِرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [8] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [29] وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ فِي مَوْضُوعِهِمَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ فَقْدِ بَعْضِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ- بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَأْثِيرَ كُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُزْنَهُ مِمَّا يَقُولُونَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَسَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ بِبَيَانِ سُنَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَإِيئَاسِهِ مِنْ إِيمَانِ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ- وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ- فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالنَّفْسِ عِنْدَ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوِ امْتِنَاعِ مَرْغُوبٍ، أَوْ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ، وَتَجِبُ مُعَالَجَتُهُ بِالتَّسَلِّي وَالتَّأَسِّي وَإِنْ كَانَ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ كَحُزْنِ الْكَامِلِينَ عَلَى إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ هَذَا الْحُزْنَ إِثْبَاتًا مُؤَكَّدًا بِتَعَلُّقِ عِلْمِهِ التَّنْجِيزِيِّ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَيْ عَنْ مَا كَانَ يَعْرِضُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِأَنَّ مَعَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَبِاللَّامِ، فَكَلِمَةُ قَدْ عَلَى أَصْلِهَا لِلتَّقْلِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا لِلتَّكْثِيرِ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْعَلَمِ لَا الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحُزْنِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [10: 65] وَفِي سُورَةِ يس: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [36: 76] كَمَا نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ (15: 88) وَالنَّحْلِ (16: 127) وَالنَّمْلِ (27: 70) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُزْنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ فِيهِ أَنَّ الثُّلَاثِيَّ مِنْهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: حَزَنَهُ الْأَمْرُ، وَتَمِيمٌ تَقُولُ: أَحْزَنَهُ وَمِنْهَا قِرَاءَةُ نَافِعٍ {لَيُحْزِنُكُ} بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الَّذِي يُحْزِنُهُ مِنْهُمْ هُوَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ وَفِي دَعْوَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَطَعْنٍ وَتَنْفِيرٍ لِلْعَرَبِ، وَمِنْهُ بِالْأَوْلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ تَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَذَبْتَ عَلَى اللهِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ وَهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْكَ كَذِبًا عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ بِإِنْكَارِهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، كَمَا جَحَدَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ لِأَخِيكَ مُوسَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [27: 14].
فَالْجُحُودُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ. يُقَالُ: جَحَدَ جُحُودًا وَجَحْدًا. اهـ. وَعِبَارَةُ اللِّسَانِ الْجَحْدُ، وَالْجُحُودُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ فِيهِ أَنَّهُ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَيُقَالُ: جَحَدَهُ وَجَحَدَ بِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ:
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أَيْ وَقَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [35: 8] كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [26: 3]- {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [18: 6] وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ، أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُبَشِّرِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ وَيَجْحَدُونَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ: فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَمَ الصُّبْحُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا؛ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شُبَّانِ قُرَيْشٍ بِهِمْ لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِمَجِيئِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًّا أَنَّ صَاحِبَيْهِ لَا يَجِيآنِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يُعُودُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاءُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ. قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ ذَبَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لِمَ تُقَاتِلُونَهُ الْيَوْمَ؟ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْأَخْنَسُ، وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيًّا، فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ، أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْتَمِعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصِيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} فَآيَاتُ اللهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْآيَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَلَا يَصِحُّ نَصٌّ فِي نُزُولِهَا مُنْفَرِدَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، كَخَبَرِ الْأَخْنَسِ مَعَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَطْعًا، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَطْعًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدٌ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا يُسْتَثْنَى.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ فِي {يُكَذِّبُونَكَ} قِرَاءَتَيْنِ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ مِنْ أَكْذَبَهُ، أَيْ: وَجَدَهُ كَاذِبًا أَوْ نَسَبَهُ إِلَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ كَذِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ بِأَنْ كَانَ نَاقِلًا لَهُ مُصَدِّقًا بِهِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، مِنَ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْكَذِبِ، بِمَعْنَى إِنْشَائِهِ وَابْتِدَائِهِ، وَبِمَعْنَى نَقْلِهِ وَرِوَايَتِهِ. وَبِهَذَا نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّيغَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَكْذَبَهُ وَكَذَّبَهُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ أَكْذَبَهُ بِمَعْنَى بَيَّنَ كَذِبَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَبِمَعْنَى وَجَدَهُ كَاذِبًا. اهـ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْتَجُّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ (أَيْ قِرَاءَتِهِ) بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَكْذَبْتُهُ، إِذَا أَخْبَرْتُ أَنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ كَذِبٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} عَلَى مَعْنَى: لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا عِنْدَ الْبَحْثِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفْتِيشِ. اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْإِكْذَابَ يَشْتَرِكُ مَعَ التَّكْذِيبِ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ، وَيَنْفَرِدُ التَّكْذِيبُ بِمَعْنَى الرَّمْيِ بِافْتِرَاءِ الْكَذِبِ، إِمَّا مُخَاطَبَةً كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: كَذَبْتَ فِيمَا قُلْتَ، وَإِمَّا بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: كَذَبَ فَلَانٌ وَافْتَرَى، وَيَنْفَرِدُ الْإِكْذَابُ بِمَعْنَى وِجْدَانِ الْمُحَدِّثِ كَاذِبًا فِيمَا قَالَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ افْتَرَاهُ، وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، أَيْ بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْسُبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ وَلَا يَجِدُونَهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ كَنَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَخَذْلِ أَعْدَائِهِ وَقَهَرِهِمْ سَيَكُونُ كَمَا أَخْبَرَ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ- وَأَهَمُّهَا الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ- كَذِبٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ قَدْ يَكُونُ لِكَلَامٍ دُونَ الْمُتَكَلِّمِ النَّاقِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّفْيَ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ كَمَا يَأْتِي.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ وَالْإِكْذَابِ مَعَ إِثْبَاتِ الْجُحُودِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:
(1) أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السِّرِّ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ.
(2) أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ كَذَّابٌ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوهُ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ فَلَمْ يَكْذِبْ فِيهِ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا صِحَّةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَصَدَّقَ مَا تَخَيَّلَهُ فَدَعَا إِلَيْهِ.
(3) أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ- كَانَ تَكْذِيبُهُمْ تَكْذِيبًا لِآيَاتِ اللهِ الْمُؤَيِّدَةِ لَهُ أَوْ تَكْذِيبًا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: فَاللهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَّبُوكَ وَلَكِنْ كَذَّبُونِي، أَيْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ كَتَكْذِيبِ الْمُرْسِلِ الْمُصَدِّقِ لَهُ بِتَأْيِيدِهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} [48: 10] وَمِثْلُهُ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [8: 17].
(4) قَالَ- وَهُوَ كَلَامٌ خَطَرَ بِالْبَالِ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَكَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ، بَلْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا، وَيَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعْجِزَةٍ: إِنَّهَا سِحْرٌ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ انْتَهَى مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى غَالِبًا وَفِيهِ قُصُورٌ. وَسَكَتَ عَنْ أَقْوَالٍ أُخْرَى قَدِيمَةٍ:
مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِيمَا وَافَقَ كُتُبَهُمْ، وَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ أَضْعَفُ مَا قِيلَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَلَا كُتُبَ عِنْدَهُمْ.
وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُكَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ، وَلَا يَتَّهِمُونَكَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ لِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا أَقْوَاهَا كَمَا تَرَى.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِمَا يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِمْ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَيُوَضِّحُهُ مَا رُوِيَ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ وَنُزُولُهَا، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ- فَالْكَلَامُ إِذًا فِي طَائِفَةِ الْجَاحِدِينَ كِبَرًا وَعِنَادًا كَأَبِي جَهْلٍ وَالْأَخْنَسِ وَأَضْرَابِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُهُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ الْمَاضِيَةِ، بَلْ عِصْمَتُهُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى، وَلَكِنَّهُمْ- لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكِبْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ- يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ بِمِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ صَدَّ الْعَرَبِ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَتِ الْآيَةُ عَامَّةً وَأُرِيدَ بِمَا يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ضُرُوبِ الْأَقْوَالِ فِي إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ وَسَائِرِ مَسَائِلِ الدِّينِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَظْهَرُ اتَّجَاهُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ بِصِدْقِ بَعْضِهَا عَلَى أُنَاسٍ وَبَعْضِهَا عَلَى آخَرِينَ، فَإِنَّ نَفْيَ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ دُونَ جُمْهُورِ الضَّالِّينَ الْجَاهِلِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجُحُودُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ ظُلْمًا وَعِنَادًا عَلَى عِلْمٍ وَمِنَ الْمُقَلِّدِينَ جَهْلًا وَاحْتِقَارًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ النَّظَرِ وَغُلُوًّا فِي ثِقَتِهِمْ بِكُبَرَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يُكَذِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكْذِيبَ الِافْتِرَاءِ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [25: 5] إِلَى قَوْلِهِ: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وَلَمْ تَكُنْ كُلُّ الْعَرَبِ تَعْرِفُ مِنْ سِيرَتِهِ وَصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مُعَاشِرُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ. وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِي جُمَلٍ شَرْطِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَالشَّوَاهِدِ الَّتِي تَرَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ قَدْ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ إِلَى أَنْ نَصْرَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، أَيْ: فَإِنْ كُذِّبْتَ فَلَكَ أُسْوَةٌ بِمَنْ قَبْلَكَ، فَلَسْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالشَّرْطِيَّةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [22: 42] إِلَخْ. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [35: 4] إِلَخْ. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [35: 25] إِلَخْ. وَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَسْلِيَةٍ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ أَوْ هِيَ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ حُسْنِ الْأُسْوَةِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ هَذَا الصَّبْرِ عَلَيْهِ تَأَسِّيًا فِي قَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [46: 35] وَاسْتِقْلَالًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [73: 10] وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ التَّأَسِّيَ يُهَوِّنُ الْمُصَابَ وَيُفِيدُ شَيْئًا مِنَ السَّلْوَةِ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ** عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي